فصل: ولاية الحجابة بها على الاستبداد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  ولاية الحجابة بها على الاستبداد

كانت بجاية ثغراً لإفريقية في دولة بني أبي حفص من الموحدين‏.‏ولما صار أمرهم للسلطان أي بكر بن يحيى منهم واستقل بملك إفريقية ولى في ثغر بجاية ابنه الأمير أبا زكرياء وفي ثغر قسنطينة ابنه الأمير عبد الله‏.‏وكان بنو عبد الواد ملوك تلمسان والمغرب الأوسط ينازعونه في أعماله ويحمرون العساكر على بجاية ويجلبون على قسنطينة إلى أن تمسك السلطان أبو بكر بذمة من السلطان أبي الحسن ملك المغرب الأقصى من بني مرين وله الشفوف على سائر ملوكهم‏.‏وزحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان فأخذ بمخنقها سنتين أو أزيد وملكها عنوة وقتل سلطانها أبا تاشفين وذلك سنة سبع وثلاثين‏.‏وخف ما كان على الموحدين من إصر بني عبد الواد واستقامت دولتهم‏.‏ثم هلك أبو عبد الله محمد ابن السلطان أبي يحيى بقسنطينة سنة أربعين وخلف سبعة من الولد كبيرهم أبو زيد عبد الرحمن ثم أبو العباس أحمد فولى الأمير أبا زيد مكان أبيه في كفالة نبيل مولاهم‏.‏ثم توفي الأمير أبو زكرياء ببجاية سنة ست وأربعين وخلف ثلاثة من الولد كبيرهم أبو عبد الله محمد وبعث السلطان أبو بكر ابنه الأمير أبا حفص عليها فمال أهل بجاية إلى الأمير أبي عبد الله بن أبي زكرياء وانحرفوا عن الأمير عمر وأخرجوه‏.‏وبادر السلطان فرقع هذا الخرق بولاية أبي عبد الله عليهم كما طلبوه‏.‏ثم توفي السلطان أبو بكر منتصف سبع وأربعين وزحف أبو الحسن إلى إفريقية فملكها ونقل الأمراء من بجاية وقسنطينة إلى المغرب‏.‏وأقطع لهم هنالك إلى أن كانت حادثة القيروان وخلع السلطان أبو عنان أباه‏.‏وارتحل من تلمسان إلى فاس فنقل معه هؤلاء الأمراء أهل بجاية وقسنطينة وخلطهم بنفسه وبالغ في تكرمتهم‏.‏ثم صرفهم إلى ثغورهم‏:‏ الأمير أبا عبد الله أولاً وإخوته من تلمسان وأبا زيد وإخوته من فاس ليستبدوا بثغورهم ويخذلوا الناس عن السلطان أبي الحسن فوصلوا إلى بلادهم وملكوها بعد أن كان الفضل ابن السلطان أبي بكر قد استولى عليها من يد بني مرين فانتزعوها منه‏.‏واستقر أبو عبد الله ببجاية حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن بجبال المصامدة وزحف أبو عنان إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين فهزم ملوكها من بني عبد الواد وأبادهم ونزل المدية وأطل على بجاية‏.‏وبادر الأمير أبو عبد الله للقائه وشكا إليه ما يلقاه من زبون الجند والعرب وقلة الجباية‏.‏وخرج له عن ثغر بجاية فملكها وأنزل عماله بها‏.‏ونقل الأمير أبا عبد الله معه إلى المغرب فلم يزل عنده في حفاية وكرامة‏.‏ولما قدمت على السلطان أبي عنان آخر خمس وخمسين واستخلصني نبضت عروق السوابق بين سلفي وسلف الأمير أبي عبد الله واستدعاني للصحابة فأسرعت وكان السلطان أبو عنان شديد الغيرة من مثل ذلك‏.‏ثم كثر المنافسون ورفعوا إلى السلطان وقد طرقه مرض أرجف له الناس فرفعوا له أن الأمير أبا عبد الله اعتزم على الفرار إلى بجاية وأني عاقدته على ذلك على أن يوليني حجابته فانبعث لها السلطان وسطا بنا واعتقلني نحواً من سنتين إلى أن هلك‏.‏وجاء السلطان أبو سالم واستولى على المغرب ووليت كتابة سره‏.‏ثم نهض إلى تلمسان وملكها من يد بني عبد الواد وأخرج منها أبا حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن ثم اعتزم على الرجوع إلى فاس وولى على تلمسان أبا زيان محمد بن أبي سعيد عثمان ابن السلطان أبي تاشفين وأمده بالأموال والعساكر من أهل وطنه ليدافع أبا حمو عن تلمسان ويكون خالصة له‏.‏وكان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية معه كما ذكرناه والأمير أبو العباس صاحب قسنطينة بعد أن كان بنو مرين حاصروا أخاه أبا زيد بقسنطينة أعواماً تباعاً‏.‏ثم خرج لبعض مذاهبه إلى بونة وترك أخاه أبا العباس بها فخلعه واستبد بالأمر دونه‏.‏وخرج إلى العساكر المجمرة عليها من بني مرين فهزمهم وأثخن فيهم‏.‏ونهض السلطان إليه من فاس سنة ثمان وخمسين فتبرأ منه أهل البلد وأسلموه فبعثه إلى سبتة في البحر واعتقله بها حتى إذا ملك السلطانأبو سالم سبتة عند إجازته من الأندلس سنة ستين أطلقه من الاعتقال وصحبه إلى دار ملكه ووعده برد بلده عليه‏.‏فلما ولى أبا زيان على تلمسان أشار عليه خاصته ونصحاؤه بأن يبعث هؤلاء الموحدين إلى ثغورهم‏:‏ فبعث أبا عبد الله إلى بجاية وقد كان ملكها عمه أبو إسحق صاحب تونس ومكفول بن تافراكين من يد بني مرين وبعث أبا العباس إلى قسنطينة وبها زعيم من زعماء بني مرين‏.‏وكتب إليه السلطان أبو سالم أن يفرج له عنها فملكها لوقته‏.‏وسار الأمير أبو عبد الله إلى بجاية فطال إجلابه عليها ومعاودته حصارها‏.‏ولج أهلها في الامتناع منه مع السلطان أبي إسحق‏.‏وقد كان لي المقام المحمود شي بعث هؤلاء الأمراء إلى بلادهم‏.‏وتوليت كبر ذلك مع خاصة السلطان أبي سالم وكبار أهل مجلسه حتى تم القصد من ذلك‏.‏وكتب لي الأمير أبو عبد الله بخطه عهداً بولاية الحجابة متى حصل على سلطانه ومعنى الحجابة - في دولنا بالمغرب - الاستقلال بالدولة والوساطة بين السلطان وبين أهل دولته لا يشاركه في ذلك أحد‏.‏وكان لي أخ اسمه يحيى أصغر مني فبعثته مع الأمير أبي عبد الله حافظاً للرسم ورجعت مع السلطان إلى فاس‏.‏ثم كان ما قدمته من انصرافي إلى الأندلس والمقام بها إلى أن تنكر الوزير ابن الخطيب وأظلم الجو بيني وبينه‏.‏وبينا نحن في ذلك وصل الخبر باستيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية من يد عمه في رمضان سنة خمس وستين وكتب الأمير أبو عبد الله يستقدمني فاعتزمت على ذلك ونكر السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ذلك مني لا يظنه لسوى ذلك إذ لم يطلع على ما كان بيني وبين الوزير ابن الخطيب فأمضيت العزم ووقع منه الإسعاف والبر والألطاف‏.‏وركبت البحر من ساحل المرية منتصف ست وستين‏.‏ونزلت بجاية لخامسة من الإقلاع فاحتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي وأركب أهل دولته للقائي‏.‏وتهافت أهل البلد علي من كل أوب يمسحون أعطافي ويقبلون يدي وكان يوماً مشهوداً‏.‏ثم وصلت إلى السلطان فحيا وفدى وخلع وحمل وأصبحت من الغد وقد أمر السلطان أهل الدولة بمباكرة بابي واستقلت بحمل ملكه واستفرغت جهدي في سياسة أموره وتدبير سلطانه وقدمني للخطابة بجامع القصبة وأنا مع ذلك عاكف بعد انصرافي من تدبير الملك غدوة إلى تدريس العلم أثناء النهار بجامع القصبة لا أنفك عن ذلك‏.‏ووجدت بينه وبين ابن عمه السلطان أبي العباس صاحب قسنطينة فتنة أحدثتها المشاحة في حدود الأعمال من الرعايا والعمال وشب نار هذه الفتنة عرب أوطانهم من الدواودة من رياح تنفيقاً لسوق الزبون يمترون به أموالهم‏.‏وكانوا في كل سنة يجمع بعضهم لبعض فالتقوا سنة ست وستين بفرجيوة وانقسم العرب عليهما‏.‏وكان يعقوب بن علي مع السلطان أبي العباس فانهزم السلطان أبو عبد الله ورجع إلى بجاية مفلولاً بعد أن كنت جمعت له أموالاً كثيرة أنفق جميعها في العرب‏.‏ولما رجع أعوزته النفقة فخرجت بنفسي إلى قبائل البربر بجبال بجاية المتمنعين من المغارم منذ سنين فدخلت بلادهم واستبحت حماهم وأخذت رهنهم على الطاعة حتى استوفيت منهم الجباية وكان لنا في ذلك مدد وإعانة ثم بعث صاحب تلمسان إلى السلطان أبي عبد الله يطلب منه الصهر فأسعفه بذلك ليصل يده به على ابن عمه وزوجه ابنته ثم نهض السلطان أبو العباس سنة سبع وستين وجاس أوطان بجاية وكاتب أهل البلد وكانوا وجلين من السلطان أبي عبد الله بما كان يرهف الحد لهم ويشد وطأته عليهم فأجابوه إلى الانحراف عنه‏.‏وخرج السلطان أبو عبد الله يروم مدافعته ونزل جبل ليزو معتصماً به فبيته السلطان أبو العباس في عساكره وجموع الأعراب من أولاد محمد بن رياح بمكانه ذلك بإغراء ابن صخر وقبائل سدويكش‏.‏وكبسه في مخيمه وركض هارباً فلحقه وقتله وسار إلى البلد بمواعده أهلها‏.‏وجاءني الخبر بذلك وأنا مقيم بقصبة السلطان وقصوره وطلب مني جماعة من أهل البلد القيام بالأمر والبيعة لبعض الصبيان من أبناء السلطان فتفاديت من ذلك وخرجت إلى السلطان أبي العباس فأكرمني وحباني وأمكنته من بلده وأجرى أحوالي كلها على معهودها‏.‏وكثرت السعاية عنده في والتحذير من مكاني‏.‏وشعرت بذلك فطلبت الإذن في الانصراف بعهد كان منه في ذلك فأذن لي بعد لأي وخرجت إلى العرب ونزلت على يعقوب بن علي‏.‏ثم بدا للسلطان في أمري وقبض على أخي واعتقله ببونة‏.‏وكبس بيوتنا يظن بها ذخيرة وأموالاً فأخفق ظنه‏.‏ثم ارتحلت من أحياء يعقوب بن علي وقصدت بسكرة لصحابة بيني وبين شيخها أحمد بن يوسف بن مزني وبين أبيه وساهم في الحادث بماله وتجاهه‏.‏مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان كان السلطان أبو حمو قد التحم ما بينه وبين السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية بالصهر في ابنته وكانت عنده بتلمسان‏.‏فلما بلغه مقتل أبيها واستيلاء السلطان أبي العباس ابن عمه صاحب قسنطينة على بجاية أظهر الامتعاض لذلك‏.‏وكان أهل بجاية قد توجسوا الخيفة من سلطاتهم بإرهاف حده وشده سطوته فانحرفوا عنه باطناً وكاتبوا ابن عمه بقسنطينة كما ذكرناه‏.‏ودسوا للسلطان أبي حمو بمثلها يرجون الخلاص من صاحبهم بأحدهما‏.‏فلما استولى السلطان أبو العباس وقتل ابن عمه رأوا أن جرحهم قد اندمل وحاجتهم قد قضيت فاعصوصبوا عليه وأظهر السلطان أبو حمو الامتعاض للواقعة يسر منه حسواً في ارتغاء ويجعله ذريعة للاستيلاء على بجاية بما كان يرى نفسه كفؤها بعده وعديده وما سلف من قومه في حصارها فسار من تلمسان بحر الشوك والمدر حتى خيم بالرشة من ساحتها ومعه أحياء زغبة بجموعهم وظعائنهم من لدن تلمسان إلى بلاد حصين من بني عامرة وبني يعقوب وسويد والديالم والعطاف وحصين‏.‏وانحجر أبو العباس بالبلد في شرذمة من الجند أعجله السلطان أبو حمو عن استيعاب الحشد ودافع أهل البلد أحسن الدفاع‏.‏وبعث السلطان أبو العباس عن أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عم أبي حمو من قسنطينة كان معتقلاً بها وأمر مولاه وقائد عسكره بشيراً أن يخرج معه في العساكر وساروا حتى نزلوا بني عبد الجبار قبالة معسكر أبي حمو وكانت رجالات زغبة قد وجموا من السلطان وأبلغهم النذير أنه إن ملك بجاية اعتقلهم بها فراسلوا أبا زيان وركبوا إليه واعتقدوا معه‏.‏وخرج رجل البلد بعض الأيام من أعلى الحصن ودفعوا شرذمة كانت مجمرة إزاءهم فاقتلعوا خباءهم‏.‏وأسهلوا من تلك العقبة إلى بسيط الرشة‏.‏وعاينهم العرب بأقصى مكانهم من المعسكر فأجفلوا وتتابع الناس في الانجفال حتى أفردوا السلطان في مخيمه فحمل رواحله وسار وكضت الطرق بزحامهم‏.‏وتراكموا بعض على بعض فهلك منهم عوالم‏.‏وأخذهم سكان الجبال من البربر بالنهب من كل ناحية وقد غشيهم الليل فتركوا أزودتهم ورحالهم‏.‏وخلص السلطان ومن خلص منهم بعد عصب الريق وأصبحوا على منجاة‏.‏وقذفت بهم الطرق من كل ناحية إلى تلمسان وكان السلطان أبو حمو قد بلغه خروجي من بجاية وما أحدثه السلطان بعدي في أخي وأهلي ومخلفي فكتب إلي يستقدمني قبل هذه الواقعة‏.‏وكانت الأمور قد اشتبهت فتفاديت بالأعذار وأقمت بأحياء يعقوب بن علي ثم ارتحلت إلى بسكرة فأقمت بها عند أميرها أحمد بن يوسف بن مزنى‏.‏فلما وصل السلطان أبو حمو إلى تلمسان وقد جزع للواقعة أخذ في استئلاف قبائل رياح ليجلب بهم مع عساكره على أوطان بجاية وخاطبني في ذلك لقرب عهده باستتباعهم وملك زمامهم ورأى أن يعول علي في ذلك واستدعاني لحجابته وعلامته وكتب بخطه مدرجة في الكتاب نصها‏:‏ الحمد لله على ما أنعم والشكر لله على ما وهب ليعلم الفقيه المكرم أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون حفظه الله على أنك تصل إلى مقامنا الكريم لما اختصصناكم به من الرتبة المنيعة والمنزلة الرفيعة وهو قلم خلافتنا والانتظام في سلك أوليائنا أعلمناكم بذلك‏.‏وكتب بخط يده عبد الله المتوكل على الله موسى بن يوسف لطف الله به وخار له‏.‏وبعده بخط الكاتب ما نصه‏:‏ بتاريخ السابع عشر من رجب الفرد الذي من عام تسعة وستين وسبعمائة عرفنا الله خيره‏.‏ونص الكتاب الذي هذه مدرجته وهو بخط الكاتب‏:‏ أكرمكم الله يا فقيه أبا زيد ووالى رعايتكم‏.‏إنا قد ثبت عندنا وصح لدينا ما انطويتم عليه من المحبة في مقامنا والانقطاع إلى جنابنا والتشيع قديماً وحديثاً لنا مع ما نعلمه من محاسن اشتملت عليها أوصافكم ومعارف فقتم فيها نظراءكم ورسوخ قدم في الفنون العلمية والآداب العربية‏.‏وكانت خطة الحجابة ببابنا العلي - أسماه الله - أكبر درجات أمثالكم وأرفع الخطط لنظرائكم قرباً منا واختصاصاً بمقامنا واطلاعاً على خفايا أسرارنا‏.‏آثرناكم بها إيثاراً وقدمناكم لها اصطفاء واختياراً فاعملوا على الوصول إلى بابنا العلي أسماه الله لما لكم فيه من التنويه والقدر النبيه حاجباً لعلي بابنا ومستودعاً لأسرارنا وصاحب الكريمة علامتنا إلى ما يشاكل ذلك من الأنعام العميم والخير الجسيم والاعتناء والتكريم‏.‏لا يشارككم مشارك في ذلك ولا يزاحمكم أحد وإن وجد من أمثالك فاعلموه وعولوا عليه والله تعالى يتولاكم ويصل سراءكم ويوالي احتفاءكم‏.‏والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏وتأدت إلي هذه الكتب السلطانية على يد سفير من وزرائه جاء إلى أشياخ الدواودة في هذا الغرض فقصت له في ذلك أحسن مقام وشايعته أحسن مشايعة وحملتهم على إجابة داعي السلطان والبدار إلى خدمته‏.‏وانحرف كبراؤهم عن خدمة السلطان أبي العباس إلى خدمته والاعتمال في مذاهبه واستقام غرضه من ذلك وكان أخي يحيى قد خلص من اعتقاله ببونة وقدم علي ببسكرة فبعثته إلى السلطان أبي حمو كالنائب عني في الوظيفة متفادياً عن تجشم أهوالها بما كنت نزعت عن غواية الرتب‏.‏وطال علي إغفال العلم فأعرضت عن الخوض في أحوال الملوك وبعثت الهمة على المطالعة والتدريس فوصل إليه الأخ فاستكفى به في ذلك ودفعه إليه‏.‏ووصلني مع هذه الكتب السلطانية كتاب رسالة من الوزير أبي عبد الله بن الخطيب من غرناطة يتشوق إلي وتأدى إلى تلمسان على يد سفراء السلطان ابن الأحمر فبعث إلي به من هنالك ونصه‏:‏ بنفسي وما نفسي علي بهينة فينزلني عنها المكاس بأثمان حبيب نأى عيني وصم لأنتي وراش سهام البين عمداً فأصماني وقد كان هم الشيب - لا كان - كافياً فقد ادني لما ترحل همان شرعت له من دمع عيني موارداً فكدر شربي بالفراق وأظماني وأرعيته من حسن عهدي جميمه فأجدب آمالي وأوحش أزماني حلفت على ما عنده لي من رضى قياساً بما عندي فأحنث أيماني وإني على ما نالني منه من قلى لأشتاق من لقياه نغبة ظمآن إذا ما دعا داع من القوم باسمه وثبت وما استثبت شيمة هيمان وتالله ما أصغيت فيه لعاذل تحاميته حتى ارعوى وتحاماني ولا استشعرت نفسي برحمة عابد تظلل يوماً مثله عبد رحمان ولا شعرت من قبله بتشوق تخلل منها بين روح وجثمان أما الشوق فحدث عن البحر ولا حرج وأما الصبر فاسأل به أية درج بعد لأن تجاوز اللوى والمنعرج لكن الشدة تعشق الفرج والمؤمن ينشق من روح الله الأرج وأنى بالصبر على إبر الدبر لا‏.‏بل الضرب الهبر ومطاولة اليوم والشهر تحت حكم القهر ومن للعين إن تسلو سلو المبصر عن إنسانها المبصر أو نذهل ذهول الزاهد عن سرها الرائي والمشاهد وفي الجسد بضعة يصلح إذا صلحت فكيف حاله إن رحلت عنه وإن نزحت وإذا كان الفراق هو الحمام الأول فعلام المعول أعيت مراوضة الفراق عمل الراق وكادت لوعة الاشتياق إن تفضي إلى السياق‏:‏ تركتموني بعد تشييعكم أوسع أمر الصبر عصيانا اقرع سني ندماً تارة واستميح الدمع أحيانا وربما تعللت بغشيان المعاهد الخالية وجددت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم البالية اسأل نون النؤى عن أهليه وميم الموقد المهجور عن مصطليه وثاء الأثافي المثلثة عن منازل الموحدين وأحار وبين تلك الأطلال حيرة الملحدين لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين كلفت لعمر الله بسال عن جفوني المؤرقة ونائم عن همومي المتجمعة والمتفرقة‏.‏ظعن عن ملال لا متبرماً منا بشر خلال وكدر الوصل بعد صفائه وضرج النصل بعد عهد وفائه‏:‏ أقل اشتياقاً أيها القلب إنما رأيتك تصفي الود من ليس جازيا فها أنا أبكي عليه بدم أساله وأندب في ربع الفراق آسى له وأشكو إليه حال قلب صدعه وأودعه من الوجد ما أودعه لما خدعه ثم قلاه وودعه وأنشق رياه أنف ارتياح قد جدعه وأستعديه على ظلم ابتدعه‏.‏خليلي فيما عشتما هل رأيتما قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي فلولا عسى الرجاء ولعله لا بل شفاعة المحل الذي حله لنشرت ألوية العتب وبثثت كتائبها كمناء في شعاب الكتب تهز من الألفات رماحاً خزر الأسنة وتوتر من النونات أمثال القسي المرنة وتقود من مجموع الطرس والنقس بلقاً تردي في الأعنة ولكنه آوى إلى الحرم الأمين وتفيأ ظلال الجوار المؤمن من معرة الغوار عن الشمال واليمين حرم الحلال المزنية والظلال اليزنية والهمم السنية والشيم التي لا ترضى بالدون ولا بالدنية حيث الرفد الممنوح والطير الميامين يزجر لها السنوح والمثوى الذي إليه مهما تقارع الكرام على الضيفان حول جوابي الجفان فهو الجنوح‏:‏ كتب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا ومن حل بتلك المثابة فقد اطمأن جنبه وتغمد بالعفو ذنبه ولله در القائل‏:‏ فوحقه لقد انتدبت لوصفه بالبخل لولا أن حمصاً داره بلد متى أذكره تهتج لوعتي وإذا قدحت الزند طار شراره اللهم غفراً وأين قراره النخيل من مثوى الأقلف البخيل ومكذبة المخيل وأين ثانية هجر من متبوأ من ألحد وفجر‏:‏ من أنكر غيثاً منشؤه في الأرض ينوء بمخلفها فبنان بنى مزني مزن تنهل بلطف مصرفها مزن مذ حل ببسكرة يوماً نطقت بمصحفها شكرت حتى بعبارتها وبمعناها وبأحرفها ضحكت بأبي العباس من ال أيام ثنايا زخرفها وتنكرت الدنيا حتى عرفت منه بمعرفها بل نقول‏:‏ يا محل الولد ‏"‏ لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ‏"‏ لقد حل بينك عرى الجلد وخلد الشوق بعدك يا بن خلدون في الصميم من الخلد فحيا الله زماناً شفيت في قربك زمانته واجتلت في صدف مجدك جمانته وقضيت في مرعى خلتك لبانته وأهلاً بروض أظلت أشتات معارفك بانته فحمائمه بعدك تندب فيساعدها الجندب ونواسمه ترق فتتغاشى وعشياته تتخافت وتتلاشى وأدواحه في ارتباك وحمائمه في مأتم ذي اشتباك كان لم تكن قمر هالات قبابه ولم يكن أنسك شارع بابه إلى صفوة الطرف ولبابه ولم يسبح إنسان عينك في ماء شبابه فلهفي عليك من درة اختلستها يد النوى ومطل بردها الدهر ولوى ونعق الغراب ببينها في ربوع الهوى ونطق بالزجر فما نطق عن الهوى وبأي شيء يعتاض منك أيتها الرياض بعد أن طما نهرك الفياض وفهقت الحياض ولا كان الشاني المشنوء والجرب المهنوء من قطع ليل أغار على الصبح فاحتمل وشارك في الذم الناقة والجمل واستأثر جنحه ببدر النادي لما كمل نشر الشراع فراع وواصل الإسراع فكأنما هو تمساح النيل ضايق الأحباب في البرهة واختطف لهم من الشط نزهة العين وعين النزهة ولجج بها والعيون تنظر والغمر عن الاتباع يحظر فلم يقدر إلا على الأسف والتماح الأثر المنتسف والرجوع بملء العيبة من الخيبة ووقر الجسرة من الحسرة إنما نشكو إلى الله البث والحزن ونستمطر من عبراتنا المزن وبسيف الرجاء نصول وإذا ما أقدر الله أن يدني على شحط من داره الحزن ممن داره صول فإن كان كلم الفراق رغيباً لما نويت مغيباً وجللت الوقت الهني تشغيباً فلعل الملتقى يكون قريباً وحديثه يروى صحيحاً غريباً‏.‏إيه سيدي‏!‏ كيف حال تلك الشمائل المزهرة الخمائل والشيم الهامية الديم هل يمر ببالها من راعت بالبعد باله وأخمدت بعاصف البين ذباله أو ترثي لشئون شأنها سكب لا يفتر وشوق يبت حبال الصبر ويبتر وضنى تقصر عن حلله الفاقعة صنعاء وتستر والأمر أعظم والله يستر وما الذي يضيرك صين من لفح السموم نضيرك بعد أن أضرمت وأشعلت وأوقدت وجعلت وفعلت فعلتك التي فعلت أن تترفق بذماء أو ترد بنغبة ماء أرماق ظماء وتتعاهد المعاهد بتحية يشم عليها شذا أنفاسك أو تنظر إلينا - على البعد - بمقلة حوراء من بياض قرطاسك وسواد أنفاسك فربما قنعت الأنفس المحبة بخيال زور وتعللت بنوال منزور ورضيت لما لم تصد العنقاء بزرزور‏:‏ يا من ترحل والرياح لأجله يشتاق إن هبت شذا رياها تحيا النفوس إذا بعثت تحية وإذا عزمت اقرأ ومن أحياها ولئن أحييت بها فيما سلف نفوساً تفديك والله إلى الخير أيهديك فنحن نقول معشر مواديك‏:‏ ثني ولا تجعليها بيضة لديك وعذراً فإني لم اجترئ على خطابك بالفقر الفقيرة وأدللت لدى حجراتك برفع العقيرة عن نشاط بعثت مرموسه ولا اغتباط بالأدب تغري بسياسته سوسة وانبساط أوحى إلي على الفترة ناموسه وإنما هو اتفاق جرته نفثة المصدور وهناء الجرب المجدور وإن تعلل به مخارق فثم قياس فارق أو لحن غنى به بعد البعد مخارق والذي هيأ هذا القدر وسببه وسهل المكروه إلي منه وحببه‏.‏ما اقتضاه الصنو يحيى - مد الله حياته وحرس من الحوادث ذاته - من خطاب ارتشف به لهذه القريحة بلالتها بعد أن رضي علالتها ورشح إلى الصهر الحضرمي سلالتها فلم يسع إلا إسعافه بما أعافه فأمليت نجيباً ما لا يعد في يوم الرهان نجيباً وأسمعته وجيباً لما ساجلت بهذه الترهات سحراً عجيباً حتى إذا ألف القلم العريان سبحه وجمح برذون الغزارة فلم أطق كبحه لم أفق من غمرة غلوه وموقف متلوه إلا وقد تحيز إلى فئتك معتزاً بل معتراً واستقبلها ضاحكاً مفتراً وهش لها براً وإن كان من الخجل مصفراً وليس بأول من هجر في التماس والوصل ممن هجر أو بعث التمر إلى هجر واي نسب بيني اليوم وبين زخرف الكلام وإجالة جياد الأقلام في محاورة الأعلام بعد أن حال القريض دون القريض وشغل المريض عن التعريض وغلب حتى الكسل ونصلت الشعرات البيض كأنها الأسل تروع برقط الحيات سرب الحياة وتطرق بذوات الغرر والشيات عند البيات والشيب الموت العاجل وإذا ابيض زرع صبحته المناجل والمعتبر الآجل وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده حكم في الظاهر بأبعاده وأسره في ملكة عادة فاغص أبقاك الله واسمح لمن قصر عن المطمح وبالعين الكليلة فالمح واغتنم لباس ثوب الثواب واشف بعض الجوى بالجواب‏.‏تولاك الله فيما استضفت وملكت ولا بعدت ولا هلكت وكان لك آية سلكت ووسمك في السعادة بأوضح السمات وأتاح لقاءك من قبل الممات والسلام الكريم يعتمد حلال ولدي وساكن خلدي بل أخي وإن اتقيت عتبه وسيدي ورحمة الله وبركاته من فحبه المشتاق إليه محمد بن عبد الله بن الخطيب في الرابع عشر من شهر ربيع الثاني من عام سبعين وسبعمائة‏.‏وكان تقدم منه قبل هذه الرسالة كتاب آخر إلي بعث به إلى تلمسان فتأخر وصوله حتى بعث به الأخ يحيى عند وفادته على السلطان ونص الكتاب‏:‏ يا سيدي إجلالاً واعتداداً وأخي وداً واعتقاداً ومحل ولدي شفقة سكنت مني فؤاداً‏.‏طال علي انقطاع أنبائك واختفاء أخبارك فرجوت إن تبلغ النية هذا المكتوب إليك وتخترق به الموانع دونك وإن كنت في مياثتك كالعاطش الذي لا يروى والآكل الذي لا يشبع شأن من تجاوز الحدود الطبيعية والعوائد المألوفة فأنا الآن - بعد إنهاء التحية المطلولة الروض بماء الدموع وتقرير الشوق اللزيم وشكوى البعاد الأليم وسؤال إناحة القرب قبل الفوت من الله ميسر العسير ومقرب البعيد - أسفل عن أحوالك سؤال أبعد الناس محالاً في مجال الخلوص لك وأشدهم حرصاً على اتصال سعادتك وقد اتصل بي في هذه الأيام ما جرى به القدر من تنويع الحال لديك واستقرارك ببسكرة محل الغبطة بك باللجأ إلى تلك الرياسة الزكية الكريمة الأب الشهيرة الفضل المعروفة القدر على البعد حرسها الله ملجأ للفضلاء ومخيماً لرجال العلياء ومهباً لطيب الثناء بحوله وقوته وما كل وقت تتاح فيه السلامة فاحمدوا الله على الخلاص وقاربوا في معاملة الآمال وضنوا بتلك الذات الفاضلة عن المشاق وأبخلوا بها عن المتالف فمطلوب الحريص على الدنيا خسيس والموانع الحافة جمة والحاصل حسرة وبأقل السعي تحصل حالة العافية والعاقل لا يستنكحه الاستغراق فيما آخره الموت إنما ينال منه الضروري ومثلك لا يعجزه - مع التماس العافية - أضعاف ما يزجي به العمر من المأكل والمشرب وحسبنا الله‏.‏وإن تشوفت لحال المحب تلك السيادة الفذة والبنوة البرة فالحال الحال من جعل الزمام بيد القدر والسير في مهيع الغفلة والسبح في تيار الشواغل ومن وراء الأمور غيب محجوب وأمل مكتوب نؤمل فيه عادة الستر من الله إلا أن الضجر الذي تعلمونه حفضه اليأس لما عجزت الحيلة وأعوز المناص وسدت المذاهب والشأن اليوم شأن الناس فيما يقرب من الاعتدال‏.‏وفيما يرجع إلى السلطان - تولاه الله - على أضعاف ما باشر سيدي من الاغياء في البر ووصل وفيما يرجع إلى الأحباب والأولاد فعلى ما علمت إلا إن الشوق مخامر القلوب وتصور اللقاء مما يزهد في الوطن وحاضر النعم‏.‏سنى الله ذلك على أفضل حال ويسره قبل الارتحال عن دار المحال‏.‏وفيما يرجع إلى الوطن فأحلام النائم خصباً وهدنة وظهوراً على العدو وحسبك بافتتاح حصن آشر وبرغه القاطعة بين بلاد الإسلام ووبذة والعارين وبيغه وحصن السهلة في عام ثم دخول بلد إطريرة بنت إشبيلية عنوة والاستيلاء علي ما يناهز خمسة آلاف من السبي ثم فتح دار الملك ولدة قرطبة‏:‏ مدينة جيان عنوة في اليوم الأغر المحجل وقتل المقاتلة وسبي الذرية وتعفية الآثار حتى لا يلم بها العمران ثم افتتاح مدينة أبدة التي تلف جيان في ملاءتها‏:‏ دار التجر والرفاهية والبنى الحافلة والنعم الثرة نسأل الله - جل وعلا - أن يصل عوائد نصره ولا يقطع عنا سبب رحمته وإن ينفع بما أعان عليه من السعي في ذلك والإعانة عليه‏.‏ولم يتزيد من الحوادث إلا ما علمتم من أخذ الله لنسمة السوء وخبث الأرض المسلوب من أثر الخير‏:‏ عمر بن عبد الله وتحكم شر الميتة في نفسه وإتيان النكال على حاشيته والاستئصال على ذاته والاضطراب مستول على الوطن بعده إلا أن الغرب على علاته لا يرجحه غيره‏.‏والأندلس اليوم شيخ غزاتها الأمير عبد الرحمن بن علي ابن السلطان أبي علي بعد وفاة الشيخ أبي الحسن‏:‏ علي بن بدر الدين رحمه الله‏.‏وقد استتر بها - بعد انصراف - سيدي الأمير المذكور والوزير مسعود بن رحو وعمر بن عثمان بن سليمان‏.‏والسلطان ملك النصارى بطره قد عاد إلى ملكة بإشبيلية وأخوه مجلب عليه بقشتالة وقرطبة مخالفة عليه قائمة بطائفة من كبار النصارى الخائفين على أنفسهم داعين لأخيه والمسلمون قد اغتنموا هبوب هذه الريح‏.‏وخرق الله لهم عوائد في باب الطهور والخير لم تكن تخطر في الآمال‏.‏وقد تلقب السلطان - أيده الله - بعقب هذه المكيفات بالغني بالله وصدرت عنه مخاطبات بمجمل الفتوح ومفضلها يعظم الحرص على إيصالها إلى تلك الفضائل لو أمكن‏.‏وأما ما يرجع إلى ما يتشوف إليه ذلك الكمال من شغل الوقت فصدرت تقاييد وتصانيف يقال فيها - بعدما أعملته تلك السيادة من الانصراف - يا إبراهيم ولا إبراهيم اليوم‏.‏منها‏:‏ أن كتاباً رفع إلى السلطان في المحبة من تصنيف ابن أبي حجلة من المشارقة أشار الأصحاب بمعارضته فعارضته وجعلت الموضوع أشرف وهو محبة الله فجاء كتاباً أدعى الأصحاب غرابته‏.‏وقد وجه إلى المشرق صحبة كتاب‏:‏ تاريخ غرناطة وغيره من تآليفي‏.‏وتعرف تحبيسه بخانقاه سعيد السعداء من مصر وانثال الناس عليه وهو في لطافة الأغراض سلمت لمصر في الهوى من بلد يهديه هواؤه لدى استنشاقه من ينكر دعواي فقل عني له تكفي امرأة العزيز من عشاقه والله يرزق الإعانة في انتساخه وتوجيهه‏.‏وصدر عني جزء سميته‏:‏ الغيرة على أهل الحيرة وجزء سميته‏:‏ حمل الجمهور على السنن المشهور‏.‏والأكباب على اختصار كتاب التاج للجوهري ورد حجمه إلى مقدار الخمس مع حفظ ترتبيه السهل والله المعين على مشغلة تقطع بها هذه البرهة القريبة البداءة من التتمة ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏والمطلوب المثابرة على تعريف يصل من تلك السيادة والبنوة إذ لا يتعذر وجود قافل من حج أو لاحق بتلمسان‏.‏يبعثها السيد الشريف منها فالنفس شديدة التعطش والقلوب قد بلغت - من الشوق والاستطلاع - الحناجر‏.‏والله أسأل أن يصون في البعد وديعتي منك لديه ويلبسك العافية ويخلصك وإياي من الورطة ويحملنا أجمعين على الجادة ويختم لنا بالسعادة‏.‏والسلام الكريم عوداً على بدء ورحمة الله وبركاته من المحب المتشوق الذاكر الداعي ابن الخطيب‏.‏في الثاني من جمادى الأولى من عام تسعة وستين وسبعمائة‏.‏ انتهى‏.‏ فأجبته عن هذه المخاطبات وتفاديت من السجع خشية القصور عن مساجلته فلم يكن شأوه يلحق‏.‏ونص الجواب‏:‏ سيدي مجداً وعلواً وواحدي ذخراً مرجواً ومحل والدي براً وحنواً‏.‏ما زال الشوق - مذ نأت بي وبك الدار واستحكم بيننا البعاد - يرعي سمعي أنباءك ويخيل إلي من أيدي الرياح تناول رسائلك حتى ورد كتابك العزيز على استطلاع وعهد غير مضاع وود في أجناس وأنواع فنشر بقلبي ميت السلو وحشر أنواع المسرات وقد للقائك زناد الأمل ومن الله أسأل الإمتاع بك قبل الفوت على ما يرضيك ويسني أماني وأمانيك‏.‏وحييته تحية الهائم لمواقع الغمائم والمدلج للصباح المتبلج وأمل على مقترح الأولياء خصوصاً فيك من اطمئنان الحال وحسن القرار وذهاب الهواجس وسكون النفرة وعموماً في الدولة من رسوخ القدم وهبوب ريح النصر والظهور على عدو الله باسترجاع الحصون التي استنقذوها في اعتلال الدولة وتخريب المعاقل التي هي قواعد النصرانية غربية لا تثبت إلا في الحلم وآية من آيات الله‏.‏وإن خبيئة هذا الفتح في طي العصور السابقة إلى هذه المدة الكريمة لدليل على عناية الله بتلك الذات الشريفة حين ظهرت على يدها خوارق العادة وما تجدد آخر الأيام من معجزات الملة ولكم فيها - والحمد لله - بحسن التدبير ويمن النقيبة من حميد الأثر وخالد الذكر طراز في حلة الخلافة النصرية وتاج في مفرق الوزارة‏.‏كتبها الله لكم فيما يرضاه من عباده‏.‏ووقفت عليه الأشراف من أهل هذا القطر المحروس وأذعته في الملأ سروراً بعز الإسلام وإظهاراً لنعمة الله واستطراداً لذكر الدولة المولوية بما تستحقه من طيب الثناء والتماس الدعاء والحديث بنعمتها والإشادة بفضلها على الدول السالفة والخالفة وتقدمها فانشرحت الصدور حباء وامتلأت القلوب إجلالاً وتعظيماً وحسنت الآثار اعتقاداً ودعاء‏.‏ وكان كتاب سيدي لشرف تلك الدولة عنواناً ولما عساه يستعجم من لغتي في مناقبها ترجماناً زاده الله من فضله وأمتع المسلمين ببقائه‏.‏وبثثته شكوى الغريب من السوق المزعج والحيرة التي تكاد تذهب بالنفس أسفاً للتجافي عن مهاد الأمن والتقويض عن دار العز بين المولى المنعم والسيد الكريم والبلد الطيب والإخوان البرة ‏"‏ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ‏"‏‏.‏وإن تشوفت السيادة الكريمة إلى الحال فعلى ما علمتم سيراً مع الأمل ومغالبة للأيام على الحظ وإقطاعاً للغفلة جانب العمر‏:‏ هل نافعي والجد في صبب مري مع الآمال في صعد رجع الله بنا إليه‏.‏ولعل في عظتكم النافعة شفاء هذا الداء العياء إن شاء الله على أن لطف الله مصاحب وجوار هذه الرياسة المزنية - وحسبك بها علمية - عصمة وافية صرفت وجه القصد إلى ذخيرتي التي كنت أعتدها منهم كما علمتم على حين تفاقم الخطب وتلون الدهر والإفلات من مظان النكبة وقد رتعت حولها بعد ما جرته الحادثة بمهلك السلطان المرحوم على يد ابن عمه قريعه في الملك وقسيمه في النسب والتياث الجاه ولغير السلطان واعتقال الأخ المخلف واليأس منه لولا تكييف الله في نجائه والعيث بعده في المنزل والولد واغتصاب الضياع المقتناة من بقايا ما متعت به الدولة النصرية - أبقاها الله - من النعمة فآوى إلى الوكر وساهم في الحادث وأشرك في الجاه والمال وأعان على نوائب الدهر وطلب الوتر حتى رأى الدهر مكاني وأمل الملوك استخلاصي وتجاروا في إتحافي‏.‏والله المخلص من عقال الآمال والمرشد إلى نبذ هذه الحظوظ المورطة‏.‏وأنبأني سيدي بما صدر عنه من التصانيف الغريبة والرسائل البليغة في هذه الفتوحات الجليلة وبودي لو وقع الاتحاف بها أو بعضها فلقد عاودني الندم على ما فرطت‏.‏وأما أخبار هذا القطر فلا زيادة على ما علمتم من استقرار السلطان أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى بتونس مستبداً بأمره بالحضرة بعد مهلك شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين القائم بأمره رحمة الله عليه مضايقاً في جبابة الوطن وأحكامه بالعرب المستظهرين بدعوته مصانعاً لهم بوفره على أمان الرعايا والسابلة لو أمكن حسن السياسة جهد الوقت ومن انتظام بجاية محل دولتنا في أمر صاحب قسنطينة وبونة غلاباً كما علمتم محفلاً الدولة بصرامته وقوة شكيمته فوق طوقها من الاستبداد والضرب على أيدي المستغلين من الأعراب منتقض الطاعة أكثر أوقاته لذلك إلا ما شمل البلاد من تغلب العرب ونقص الأرض من الأطراف والوسط وخمود ذبال الدول في كل جهة وكل بداية فإلى تمام‏.‏وأما أخبار المغرب الأقصى والأدنى فلديكم طلعه وأما المشرق فأخبار الحاج هذه السنة من اختلاله وانتقاض سلطانه وانتزاء الجفاة على كرسية وفساد المصانع والسقايات المعدة لوفد الله وحاج بيته ما يسخن العين ويطيل البث حتى لزعموا أن الهيعة اتصلت بالقاهرة أياماً وكثر الهرج في طرقاتها وأسواقها لما وقع بين أسندمر المتغلب بعد يلبغا الخاسكي وبين سلطانه ظاهر القلعة من الجولة التي كانت دائرتها عليه أجلت عن زهاء الخمسمائة قتلى من حاشية وموالي يلبغا وتقبض على الباقين فأودع منهم السجون وصلب الكثير وقتل أسندمر في محبسه وألقي زمام الدولة بيد كبير من موالي السلطان فقام بها مستبداً وقادها مستقلاً وبيد الله تصاريف الأمور ومظاهر الغيوب جل وعلا‏.‏ورغبتي من سيدي - أبقاه الله - أن لا يغب خطابه عني متى أمكن يصل بذلك مننه الجمة وأن يقبل عني أقدام تلك الذات المولوية ويعرفه بما عندي من التشيع لسلطانه والشكر لنعمته وأن تنهوا عني لحاشيته وأهل اختصاصه التحية المختلسة من أنفاس الرياض كبيرهم وصغيرهم‏.‏وقد تأدى مني إلى حضرته الكريمة خطاب على يد الحاج نافع - سلمه الله - تناوله من الأخ يحيى عند لقائه إياه بتلمسان بحضرة السلطان أبي حمو - أيده الله - فربما يصل وسيدي يوضح من ثنائي ودعائي ما عجز عنه الكتاب‏.‏والله يبقيكم ذخراً للمسلمين وملاذاً للآملين بفضله‏.‏والسلام عليكم وعلى من لاذ بكم من السادة الأولاد المناجيب والأهل والحاشية والأصحاب من المحب فيكم المعتد بكم شيعة فضلكم ابن خلدون ورحمة الله وبركاته‏.‏عنوانه‏:‏ سيدي وعمادي ورب الصنائع والأيادي والفضائل الكريمة الخواتم والمبادي إمام الأمة علم الأئمة تاج الملة فخر العلماء الجلة عماد الإسلام مصطفى الملوك الكرام نكتة الدول كافل الإمامة تاج الدول أثير الله ولي أمير المسلمين الغني بالله - أيده الله - الوزير أبو عبد الله بن الخطيب أبقاه الله وتولى عن المسلمين جزاءه‏.‏وكتب إلي من غرناطة‏:‏ يا سيدي ووليي وأخي ومحل ولدي‏!‏ كان الله لكم حيث كنتم ولا أعدمكم لطفه وعنايته‏.‏لو كان مستقركم بحيث يتأتى لي إليه ترديد رسول أو إيفاد متطلع أو توجيه نائب لرجعت على نفسي باللائمة في إغفال حقكم ولكن العذر ما علمتم واحمدوا الله على الاستقرار في كهف ذلك الفاضل الذي وسعكم كنفه‏.‏وشملكم فضله شكر الله حسبه الذي لم يخلف وإني اغتنمت سفر هذا الشيخ وافد الحرمين بمجموع الفتوح في إيصال كتابي هذا وبودي لو وقفتم على ما لديه من البضاعة التي أنتم رئيسها وصدرها فيكون لكم في ذلك بعض أنس وربما تأدى ذلك في بعضه مما لم يختم عليه وظاهر الأمور نحيل علية في لعريفكم بها وأما البواطن فمما لا يتأتى كثرة وضنانة وأخص بالصاد ما أظن تشوفكم إليه حالي‏.‏فاعملوا أني قد بلغ بي الماء الزبى واستولى علي سوء المزاج المنحرف وتوالت الأمراض وأعوز العلاج لبقاء السبب والعجز عن دفعه‏.‏وهي هذه المداخلة جعل الله العاقبة فيها إلى خير ولم أترك وجهاً من وجوه الحيلة إلا بذلته‏.‏فما أغنى ذلك عني شيئاً ولولا أنني بعدكم شغلت الفكر بهذر التأليف مع الزهد‏.‏وبعد العهد‏.‏وعدم الإلماع بمطالعة الكتب‏.‏لم يتمش حالي من طريق فساد الفكر إلى هذا الحد وآخر ما صدر عني كناش سميته باستنزال اللطف الموجود في أسر الوجود‏.‏أمليته في هذه الأيام التي أقيم بها رسم النيابة عن السلطان في سفره إلى الجهاد‏.‏بودي لو وقفتم عليه‏.‏وعلى كتابي في المحبة وعسى الله أن ييسر ذلك‏.‏ومع هذا كله‏.‏والله ما قصرت في الحرص على إيصال مكتوب إليكم‏.‏إما من جهة أخيكم أو من جهة السيد الشريف أبي عبد الله‏.‏حتى من المغرب إذا سمعت الركب يتوجه منه فلا أدري هل بلغكم شيء من ذلك أم لا‏.‏والأحوال كلها على ما تركتموها عليه‏.‏وأحبابكم بخير‏.‏على والله يحفظكم‏.‏ويكون لكم‏.‏ويتولى أموركم والسلام عليكم ورحمة الله‏.‏من المحب الواحش الشيخ ابن الخطيب‏.‏في غرة ربيع الثاني من عام إحدى وسبعين وسبعمائة‏.‏وبباطنه مدرجة نصها‏:‏ سيدي رضي الله عنكم‏.‏استقر بتلمسان‏.‏في سبيل تقلب ومطاوعة مزاج تعرفونه‏.‏صاحبنا المقدم في صنعة الطب أبو عبد الله الشقوري‏.‏فإن اتصل بكم فأعينوه على ما يقف عليه اختياره وهذا لا يحتاج معه إلى مثلكم‏.‏عنوانه‏:‏ سيدي ومحل أخي‏.‏الفقيه الجليل‏.‏الصدر الكبير المعظم‏.‏الرئيس الحاجب‏.‏العالم الفاضل الوزير ابن خلدون‏.‏وصل الله سعده‏.‏وحرس مجده‏.‏بمنه‏.‏وإنما طولت بذكر هذه المخاطبات‏.‏وإن كانت فيما يظهر‏.‏خارجة عن غرض الكتاب‏.‏لأن فيها كثيراً من أخباري‏.‏وشرح حالي‏.‏فيستوفي ذلك منها من يتشوف إليه من المطالعين للكتاب‏.‏ثم إن السلطان أبا حمو لم يزل معتملاً في الاجلاب على بجاية‏.‏واستئلاف قبائل رياح لذلك‏.‏ومعولا على مشايعتي فيه‏.‏ووصل يده مع ذلك بالسلطان أبي إسحاق ابن السلطان أبي بكر صاحب تونس من بني أبي حفص لما كان بينه وبين أبي العباس صاحب بجاية وقسنطينة وهو ابن أخيه من العداوة التي تقتضيها مقاسمة النسب والملك وكان يوفد رسله عليه في كل وقت ويمرون بي وأنا ببسكرة فأؤكد الوصلة بمخاطبة كل منهما وكان أبو زيان ابن عم السلطان أبي حمو بعد إجفاله عن بجاية واختلال معسكره قد سار في أثره إلى تلمسان وأجلب على نواحيها فلم يظفر بشيء وعاد إلى بلاد حصين فأقام بينهم واشتملوا عليه ونجم النفاق في سائر أعمال المغرب الأوسط واختلف أحياء زغبة على السلطان وانتبذ الكثير عنه إلى القفر‏.‏ولم يزل يستألفهم حتى اجتمع له الكثير منهم فخرج في عساكره في منتصف تسع وستين إلى حصين وأبي زيان واعتصموا بجبل تيطري وبعث إلي في استنفار الدواودة للأخذ بحجزتهم من جهة الصحراء وكتب يستدعي أشياخهم‏:‏ يعقوب بن علي كبير أولاد محمد وعثمان بن يوسف كبير أولاد سباع بن يحيى‏.‏وكتب إلى ابن مزنى قعيدة وطنهم بإمدادهم في ذلك فأمدهم وسرنا مغربين إليه حتى نزلنا القطفا قبلة تيطري وقد أحاط السلطان به من جانب التل على أنه إذا فرغ من شأنهم سار معنا إلى بجاية وبلغ الخبرإلى صاحب بجاية أبي العباس فاستألف من بقي من قبائل رياح وعسكر بطرف ثنية القصاب المفضية إلى المسيلة‏.‏وبينما نحن على ذلك اجتمع المخالفون من زغبة‏:‏ وهم خالد بن عامر كبير بني عامر وأولاد عريف كبراء سويد ونهضوا إلينا بمكاننا من القطفا فأجفلت أحياء الدواودة وتأخرنا إلى المسيلة ثم إلى الزاب‏.‏وسارت زغبة إلى تيطري واجتمعوا مع أبي زيان وحصين وهجموا على معسكر السلطان أبي حمو ففلوه ورجع منهزماً إلى تلمسان‏.‏ولم يزل من بعد ذلك على استئلاف زعبة ورياح يؤمل الظفر بوطنه وابن عمه والكرة على بجاية عاماً فعاماً وأنا على حال في مشايعته وإيلاف ما بينه وبين الدواودة والسلطان أبي إسحاق صاحب تونس وابنه خالد من بعده‏.‏ثم دخلت زغبة في طاعته واجتمعوا على خدمته ونهض من تلمسان لشفاء نفسه من حصين وبجاية وذلك في أخريات إحدى وسبعين فوفدت عليه بطائفة من الدواودة أولاد عثمان بن يوسف بن سليمان لنشارف أحواله ونطالعه بما يرسم لهم في خدمته فلقيناه بالبطحاء‏.‏وضرب لنا موعدا بالجزائر انصرف به العرب إلى أهليهم وتخلفت بعدهم لقضاء بعض الأغراض واللحاق بهم وصليت به عيد الفطر على البطحاء وخطبت به وأنشدته عند انصرافه من المصلى أهنيه بالعيد وأحرضه‏:‏ هذي الديار فحيهن صباحاً وقف المطايا بينهن طلاحا لا تسأل الأطلال إن لم تروها عبرات عينك واكفاً ممتاحا فلقد أخذن على جفونك موثقاً أن لا يرين مع البعاد شحاحا إيه عن الحي الجميع وربما طرب الفؤاد لذكرهم فارتاحا وهي طويلة ولم يبق في حفظي منها إلا هذا‏.‏وبينما نحن في ذلك بلغ الخبربأن السلطان عبد العزيز صاحب المغرب الأقصى من بني مرين قد استولى على جبل عامر بن محمد الهنتاتي بمراكش وكان آخذاً بمخنقه منذ حول‏.‏وساقه إلى فاس فقتله بالعذاب وإنه عازم على النهوض إلى تلمسان لما سلف من السلطان أبي حمو أثناء حصار السلطان عبد العزيز لعامر في جبلة من الأجلاب على ثغور المغرب ولحين وصول هذا الخبر أضرب السلطان أبو حمو عن ذلك الشأن الذي كان فيه وكر راجعاً إلى تلمسان‏.‏وأخذ في أسباب الخروج إلى الصحراء مع شيعة بني عامر من أحياء زغبة فاستألف وجمع وشد الرحال وقضى عيد الأضحى وطلبت منه الإذن في الانصراف إلى الأندلس لتعذر الوجهة إلى بلاد رياح وقد أظلم الجو بالفتنة وانقطعت السبل فأذن لي وحملني رسالة فيما بينه وبين السلطان ابن الأحمر‏.‏وانصرفت إلى المرسى بهنين وجاءه الخبر بنزول صاحب المغرب تازاً في عساكره فأجفل بعده من تلمسان ذاهباً إلى الصحراء عن طريق البطحاء‏.‏وتعذر علي ركوب البحر من هنين فأقصرت وتأدى الخبر إلى السلطان عبد العزيز بأني مقيم بهنين وإن معي وديعة احتملتها إلى صاحب بالأندلس تخيل ذلك بعض الغواة فكتب إلى السلطان عبد العزيز فأنفذ من وقته سرية من تازا تعترضني لاسترجاع تلك الوديعة واستمر هو إلى تلمسان ووافتني السرية بهنين وكشفوا الخبر فلم يقفوا على صحته وحملوني إلى السلطان فلقيته قريباً من تلمسان واستكشفني عن ذلك الخبر فأعلمته بيقينه‏.‏وعنفني على مفارقة دارهم فاعتذرت له بما كان من عمر بن عبد الله المستبد عليهم وشهد لي كبير مجلسه وولي أبيه وابن وليه‏:‏ ونزمار بن عريف ووزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة واحتفت الألطاف‏.‏وسألني في ذلك المجلس عن أمر بجاية وأفهمني أنه يروم تملكها‏.‏فهونت عليه السبيل إلى ذلك فسر به وأقمت تلك الليلة في الاعتقال‏.‏ثم أطلقني من الغد فعمدت إلى رباط الشيخ الولي أبي مدين ونزلت بجواره مؤثراً للتخلي والانقطاع للعلم لو تركت له‏.‏مشايعة السلطان عبد العزيز صاحب المغرب علم بني عبد الواد ولما دخل السلطان عبد العزيز تلمسان واستولى عليها وبلغ خبره إلى أبي حمو وهو بالبطحاء فأجفل من هنالك وخرج في قومه وشيعته من بني عامر ذاهباً إلى بلاد رياح فسرح السلطان وزيره أبا بكر بن غازي في العساكر لاتباعه‏.‏وجمه عليه أحياء زغبة والمعقل باستئلاف وليه ونزمار وتدبيره ثم أعمل السلطان نظره ورأى أن يقدمني أمامه إلى بلاد رياح لأوطد أمره وأحملهم على مناصرته وشفاء نفسه من عدوه بما كان السلطان آنس مني من استتباع رياح وتصريفهم فيما أريده من مذاهب الطاعة فاستدعاني من خلوتي بالعتاد عند رباط الولي أبي مدين‏.‏وأنا قد أخذت في تدريس العلم واعتزمت على الانقطاع فآنسني وقربني ودعاني إلى ما ذهب إليه من ذلك فلم يسعني إلا إجابته‏.‏وخلع علي وحملني وكتب إلى شيوخ الدواودة بامتثال ما ألقب إليهم من أوامره‏.‏وكتب إلى يعقوب بن علي وابن مزنى بمساعدتي على ذلك وأن يحاولوا على استخلاص أبي حمو من بين أحياء بني عامر ويحولوه إلى حي يعقوب بن علي فودعته وانصرفت في عاشوراء اثنين وسبعين فلحقت الوزير في عساكره وأحياء العرب من المعقل وزغبة على البطحاء‏.‏ولقيته ودفعت إليه كتاب السلطان وتقدمت أمامه‏.‏وشيعني ونزمار يومئذ وأوصاني بأخيه محمد‏.‏وقد كان أبوحمو قبض عليه عندما أحس منهم بالخلاف وأنهم يرومون الرحلة إلى المغرب‏.‏وأخرجه معه من تلمسان مقيداً واحتمله في معسكره فأكد علي ونزمار يومئذ في المحاولة على استخلاصه بما أمكن‏.‏وبعث معي ابن أخيه عيسى في جماعة من سويد يبذرق بي ويتقدم إلى أحياء حصين بإخراج أبي زيان من بينهم فسرنا جميعاً وانتهينا إلى أحياء حصين‏.‏وأخبرهم فرح بن عيسى بوصية عمه ونزمار إليهم فنبذوا إلى أبي زيان عهده وبعثوا معه منهم من أوصله إلى بلاد رياح‏.‏ونزل على أولاد يحيى بن علي بن سباع وتوغلوا به في القفر واستمريت أنا ذاهباً إلى بلاد رياح فلما انتهيت إلى المسيلة ألفيت السلطان أبا حمو وأحياء رياح معسكرين قريباً منها في وطن أولاد سباع بن يحيى من الدواودة وقد تساتلوا إليه وبذل فيهم العطاء ليجتمعوا إليه‏.‏فلما سمعوا بمكاني بالمسيلة جاؤوا إلي فحملتهم على طاعة السلطان عبد العزيز وأوفدت أعيانهم وشيوخهم على الوزير أبي بكر بن غازي فلقوه ببلاد الديالم عند نهر واصل فأتوه طاعتهم ودعوه إلى دخول بلادهم في اتباع عدوه‏.‏ونهض معهم وتقدمت أنا من المسيلة إلى بسكرة فلقيت بها يعقوب بن علي‏.‏واتفق هو وابن مزنى على طاعة السلطان وبعث ابنه محمداً للقاء أبي حمو وأمير بني عامر خالد بن عامر يدعوهم إلى نزول وطنه والبعد به عن بلاد السلطان عبد العزيز فوجده متدلياً من المسيلة إلى الصحراء‏.‏ولقيه على الدوسن وبات ليلته يعرض عليهم التحول من وطن أولاد سباع إلى وطنهم بشرقي الزاب‏.‏وأصبح يومه كذلك فما راعهم آخر النهار إلا انتشار العجاج خارجاً إليهم من أفواه الثنية فركبوا يستشرقون وإذا بهوادي الخيل طالعة من الثنية وعساكر بني مرين والمعقل وزغبة متتالية أمام الوزير أبي بكر بن غازي قد دل بهم الطريق وفد أولاد سباع الذين بعثتهم من المسيلة فلما أشرفوا على المخيم أغاروا عليه مع غروب الشمس فأجفل بنو عامر وانتهب مخيم السلطان أبي حمو ورحائله وأمواله‏.‏ونجا بنفسه تحت الليل وتمزق شمل ولده وحرمه حتى خلصوا إليه بعد أيام واجتمعوا بقصور مصاب من بلاد الصحراء وامتلأت أيدي العساكر والعرب من نهابهم‏.‏وانطلق محمد بن عريف في تلك الهيعة‏.‏أطلقه الموكلون به وجاء إلى الوزير وأخيه ونزمار وتلقوه بما يجب له‏.‏وأقام الوزير أبو بكر بن غازي على الدوسن أياماً أراح فيها‏.‏وبعث إليه ابن مزنى بطاعته وأرغد له من الزاد والعلوفة وارتحل راجعاً إلى المغرب وتخلفت بعده أياماً عند أهلي ببسكرة‏.‏ثم ارتحلت إلى السلطان في وفد عظيم من الدواودة يقدمهم أبو دينار أخو يعقوب بن علي وجماعة من أعيانهم فسابقنا الوزير إلى تلمسان وقدمنا على السلطان فوسعنا من حبائه وتكرمته ونزله ما بعد العهد بمثله‏.‏ثم جاء من بعدنا الوزير أبو بكر بن غازي على الصحراء بعد أن مر بقصور بني عامر هنالك فخربها وكان يوم قدومه على السلطان يوماً مشهوداً وأذن بعدها لوفود الدواودة بالانصراف إلى بلادهم‏.‏وقد كان ينتظر بهم قدوم الوزير ووليه ونزمار بن عريف فودعوه وبالغ في الإحسان إليهم وانصرفوا إلى بلادهم‏.‏ثم أعمل نظره في إخراج أبي زيان من بين أحياء الدواودة لما خشي من رجوعه إلى حصين فوامرني في ذلك وأطلقني إليهم في محاولة انصرافه عنهم فانطلقت لذلك‏.‏وكان أحياء حصين قد توجسوا الخيفة من السلطان وتنكروا له وانصرفوا إلى أهلهم بعد مرجعهم من غزاتهم مع الوزير وبادروا باستدعاء أبي زيان من مكانه عند أولاد يحيى بن علي وأنزلوه بينهم واشتملوا عليه وعاثوا إلى الخلاف الذي كانوا عليه أيام أبي حمو واشتعل المغرب الأوسط ناراً‏.‏ونجم صبي من بيت الملك في مغراوة وهو حمزة بن علي بن راشد فر من معسكر الوزير ابن غازي أيام مقامه عليها فاستولى على شلف وبلاد قومه‏.‏وبعث السلطان وزيره عمر بن مسعود في العساكر لمنازلته وأعيا داؤه وانقطعت أنا ببسكرة وحال ذلك ما بيني وبين السلطان إلا بالكتاب والرسالة‏.‏وبلغني في تلك الأيام وأنا ببسكرة مفر الوزير ابن الخطيب من الأندلس وقدومه على السلطان بتلمسان توجس الخيفة من سلطانه بما كان له من الاستبداد عليه وكثرة السعاية من البطانة فيه فأعمل الرحلة إلى الثغور المغربية لمطالعتها بإذن سلطانه‏.‏فلما حاذى جبل الفتح قفل الفرضة دخل إلى الجبل وبيده عهد السلطان عبد العزيز إلى القائد هنالك بقبوله‏.‏وأجاز البحر من حينه إلى سبتة وسار إلى السلطان بتلمسان وقدم عليهما في يوم مشهود‏.‏وتلقاه السلطان من الحظوة والتقريب وإدرار النعم بما لا يعهد مثله‏.‏وكتب إني من تلمسان يعرفني بخبره ويلم ببعض العتاب على ما بلغه من حديثي الأول بالأندلس‏.‏ولم يحضرني الآن كتابه فكان جوابي عنه ما نصه‏:‏ الحمد لله ولا قوة إلا بالله ولا راد لما قضاه الله‏.‏يا سيدي ونعم الذخر الأبدي والعروة الوثقى التي اعتلقتها يدي أسلم عليكم سلام القدوم على المخدوم والخضوع للملك المتبوع لا بل أحييكم تحية المشوق للمعشوق والمدلج للصباح المتبلج وأقرر ما أنتم أعلم بصحيح عقدي في من حبي لكم ومعرفتي بمقداركم وذهابي إلى أبعد الغايات في تعظيمكم والثناء عليكم والإشادة في الإنفاق بمنقاقبكم ديدناً معروفاً وسجية راسخة يعلم الله وكفى به شهيداً وبهذا كما في علمكم قسماً ما اختلف لي فيه أول وآخر ولا شاهد ولا غائب‏.‏وأنتم أعلم بما في نفسي وأكبر شهادة في خفايا ضميري‏.‏ولو كنت ذاك فقد سلف من حقوقكم وجميل أخذكم واجتلاب الحظ - لو هيأه القدر - بمساعيكم وإيثاري بالمكان من سلطانكم ودولتكم ما يستلين معاطف القلوب ويستل سخائم الهواجس فأنا أحاشيكم من استشعار نبوة أو إحقاق ظن ولو تعلق بقلب ساق حر ذرء وذرء فحاش لله أن يقدح في الخلوص لكم أو يرجح سوابقكم إنما هو خبيئة الفؤاد إلى الحشر أو اللقاء‏.‏ووالله وجميع ما يقسم به ما اطلع على مستكنه مني غير صديقي وصديقكم الملابس - كان - لي ولكم الحكيم الفاضل العلم أبي عبد الله الشقوري أعزه الله‏.‏نفثة مصدور ومباثة خلوص إذ أنا أعلم الناس بمكانه منكم وقد علم ما كان مني حين مفارقة صاحب تلمسان واضمحلال أمره من إجماع الأمر على الرحلة إليكم والخفوف إلى حاضرة البحر للإجازة إلى عدوتكم تعرضت فيها للتهم ووقفت بمجال الظنون حتى تورطت في الهلكة بما ارتفع عني مما لم آته ولا طويت العقد عليه لولا حلم مولانا الخليفة وحسن رأيه في وثبات بصيرته لكنت في الهالكين الأولين كل ذلك شوقاً إلى لقائكم وتمثلاً لأنسكم فلا تظنوا بي الظنون ولا تصدقوا في التوهمات فأنا من علمتم صداقة وسذاجة وخلوصاً واتفاق ظاهر وباطن أثبت الناس عهداً وأحفظهم غيباً وأعرفهم بوزن الإخوان ومزايا الفضلاء ولأمر ما تأخر كتابي من تلمسان فأني كنت أستشعر ممن استضافني ريباً بخطاب سواه خصوصاً جهتكم لقديم ما بين الدولتين من الاتحاد والمظاهرة واتصال اليد مع أن الرسول تردد إلي وأعلمني اهتمامكم واهتمام السلطان تولاه الله باستكشاف ما أنبهم من حالي فلم أترك شيئاً مما أعلم تشوفكم إليه إلا وكشفت له قناعه وأمنته على بلاغه ولم أزل بعد انتياش مولانا الخليفة لذمائي وجذبه بضبعي سابحاً في تيار الشواغل كما علمتم القاطعة حتى عن الفكر‏.‏وسقطت إلي بمحل خدمتي من هذه القاصية أخبار خلوصكم إلى المغرب قبل وصول راجلي إلى الحضرة غير جلية ولا ملتئمة ولم يتعين ملقي العصى ولا مستقر النوى فأرجيت الخطاب إلى استجلائها وأفدت في كتابكم العزيز علي الجاري على سنن الفضل ومذهب المجد غريب ما كيفه القدر من تنويع الحال لديكم‏.‏وعجبت من تأتي أملكم الشارد فيه كما كنا نستبعده عند المفاوضة فحمدت الله لكم على الخلاص من ورطة الدول على أحسن الوجوه وأجمل المخارج الحميدة العواقب في الدنيا والدين العائدة بحسن المآل في المخلف‏:‏ من أهل وولد ومتاع وأثر بعد أن رضتم جموح الأيام وتوقلتم قلل العز وقدتم الدنيا بحذافيرها وأخذتم بآفاق السماء على أهلها‏.‏وهنيئاً فقد نالت نفسكم التواقة أبعد أمانيها ثم تاقت إلى ما عند الله وأشهد لما ألهمتم للإعراض عن الدنيا ونزع اليد من حطامها عند الإصحاب والإقبال ونهى الآمال إلا جذباً وعناية من الله وحباً وإذا أراد الله أمراً يسر أسبابه‏.‏واتصل بي ما كان من تحفي المثابة المولوية بكم واهتزاز الدولة لقدومكم ومثل تلك الخلافة أيدها الله من يثابر على المفاخر ويستأثر بالأخاير‏.‏وليت ذلك عند إقبالكم على الحظ وأنسكم باجتلاب الآمال حتى يحسن المتاع بكم ويتجمل السرير الملوكي بمكانكم فالظن إن هذا الباعث الذي هزم الآمال ونبذ الحظوظ وهون المفارق العزيز يسومكم الفرار إلى الله حتى يأخذ بيدكم إلي فضاء المجاهدة ويستوي بكم على جودي الرياضة‏.‏والله يهدي للتي هي أقوم‏.‏وكأني بالأقدام تلت والبصائر بإلهام الحق صقلت والمقامات خلفت بعد أن استقبلت والعرفان شيمت أنواره وبوارقه والوصول انكشفت حقائقه لما ارتفعت عوائقه‏.‏وأما حالي والظن بكم الاهتمام بها والبحث عنها فغير خفية بالباب المولوي - أعلاه الله - ومظهرها في طاعته ومصدرها عن أمره وتصاريفها في خدمته والزعم إني قمت المقام المحمود في التشيع والانحياش واستمالة الكافة إلى المناصحة ومخالطة القلوب للولاية وما يتشوفه مجدكم ويتطلع إليه فضلكم واهتمامكم من خاصيها في النفس والولد فجهينة خبره مؤدي كتابي إليكم ناشئ تأديبي وثمرة تربيتي فسهلوا له الإذن وألينوا له جانب النجوى حتى يؤدي ما عندي وما عندكم وخذوه بأعقاب الأحاديث أن يقف عند مبادئها وائتمنوه على ما تحدثون فليس بظنين على السر‏.‏وتشوفي لما يرجع به إليكم سيدي وصديقي وصديقكم المغرب في المجد والفضل المساهم في الشدائد كبير المغرب وظهير الدولة أبو يحيى بن أبي مدين - كان الله له - في شأن الولد والمخلف تشوف الصديق لكم الضنين على الأيام بقلامة الظفر من ذات يدكم فأطلعوني طلع ذلك ولا يهمكم فالفراق الواقع حسن والسلطان كبير والأثر جميل والعدو الساعي قليل وحقير والنية صالحة والعمل خالص ومن كان لله كان الله له‏.‏واستطلاع الرياسة المزنية الكافلة - كافأ الله يدها البيضاء - عني وعنكم إلى مثله من أحوالكم استطلاع من يسترجح وزانكم ويشكر الزمان على ولاده لمثلكم‏.‏وقد قررت لعلومه من مناقبكم وبعد شأوكم وغريب منحاكم ما شهدت به آثاركم الشائعة الخالدة في الرسائل المتأدية وعلى ألسنة الصادر والوارد من الكافة من حمل الدولة وسلامي على سيدي وفلذة كبدي ومحل ولدي الفقيه الزكي الصدر أبي الحسن نجلكم أعزه الله وقد وقع مني موقع البشرى حلوله من الدولة بالمكان العزيز والرتبة النابهة والله يلحفكم جميعاً رداء العافية والستر ويمهد لكم محل الغبطة والأمن ويحفظ عليكم ما أسبغ من نعمته ويجريكم على عوائد لطفه وعنايته والسلام الكريم يخصكم من المحب الشاكر الداعي الشائق شيعة فضلكم‏:‏ عبد الرحمن بن خلدون ورحمة الله وبركاته في يوم الفطر عام اثنين وسبعين وسبع مائة‏.‏وكان بعث إلي مع كتابه نسخة كتابه إلى سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس عندما دخل جبل الفتح وصار إلى إيالة بني مرين فخاطبه من هنالك بهذا الكتاب فرأيت أن أثبته هنا وإن لم يكن من غرض التأليف لغربته ونهايته في الجودة وإن مثله لا يهمل من مثل هذا الكتاب مع ما فيه من زيادة الاطلاع على أخبار الدول في تفاصيل أحوالها‏.‏ونص الكتاب‏:‏ بانوا فمن كان باكياً يبكي هذي ركاب السرى بلا شك فمن ظهور الركاب معملة إلى بطون الربى إلى الفلك تصدع الشمل مثلما انحدرت إلى صبوب جواهر السلك من النوى قبل لم أزل حذراً هذى النوى جل مالك الملك مولاي‏.‏كان الله لكم وتولى أمركم‏.‏أسلم عليكم سلام الوداع وأدعو الله في تيسير اللقاء والاجتماع بعد التفرق والانصداع وأقرر لديكم أن الإنسان أسير الأقدار مسلوب الاختيار متقلب في حكم الخواطر والأفكار وأن لا بد لكل أول من آخر وأن التفرق لما لزم كل اثنين بموت أو في حياة ولم يكن منه بد كان خير أنواعه الواقعة بين الأحباب ما وقع على الوجوه الجميلة البريئة من الشرور‏.‏ويعلم مولاي حال عبده منذ وصل إليكم من المغرب بولدكم ومقامه لديكم بحال قلق وقلعة لولا تعليلكم ووعدكم وارتقاب اللطائف في تقليب قلبكم وقطع مراحل الأيام حريصاً على استكمال سنكم ونهوض ولدكم واضطلاعهم بأمركم وتمكن هدنة وطنكم وما تحمل في ذلك من ترك غرضه لغرضكم وما استقر بيده من عهودكم وأن العبد الآن لما تسبب لكم في الهدنة من بعد الظهور والعز ونجح السعي وتأتى لسنين كثيرة الصلح ومن بعد أن لم يبق لكم بالأندلس مشغب من القرابة وتحرك لمطالعة الثغور الغربية وقرب من فرضة المجاز واتصال الأرض ببلاد المشرق طرقته الأفكار وزعزعت صبره رياح الخواطر وتذكر إشراف العمر على التمام وعواقب الاستغراق وسيرة الفضلاء عند شمول البياض فغلبته حال شديدة هزمت التعشق بالشمل الجميع والوطن المليح والجاه الكبير والسلطان القليل النظير وعمل بمقتضى قوله‏:‏ موتوا قبل أن تموتوا‏.‏فإن صحت هذه الحال المرجو من إمداد الله تنقلت الأقدام إلى أمام وقوي التعلق بعروة الله الوثقى وإن وقع العجز وافتضح العزم فالله يعاملنا بلطفه‏.‏وهذا المرتكب مرام صعب لكن سهله علي أمور‏:‏ منها أن الانصراف لما لم يكن منه بد لم يتعين على غير هذه الصورة إذ كان عندكم من باب المحال‏.‏ومنها أن مولاي لو سمح لي في غرض الانصراف لم تكن لي قدرة على موقف وداعه لا والله‏!‏ ولكان الموت أسبق إلي وكفى بهذه الوسيلة الحبية - التي يعرفها - وسيلة‏.‏ومنها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به وأظن أني لا أصدق‏.‏ومنها اغتنام المفارقة في زمن الأمان والهدنة الطويلة والاستغناء إذ كان الانصراف المفروض ضرورياً قبيحاً في غير هذه الحال‏.‏ومنها - وهو أقوى الأعذار - إنني مهما لم أطق تمام هذا الأمر أو ضاق ذرعي به لعجز أو مرض أو خوف طريق أو نفاد زاد أو شوق غالب رجعت رجوع الأب الشفيق إلى الولد البر الرضي إذ لم أخلف ورائي مانعاً من الرجوع من قول قبيح أو فعل بل خلفت الوسائل المرعية والآثار الخالدة والسير الجميلة وانصرفت بقصد شريف فقت به أشياخي وكبار وطني وأهل طوري وتركتكم على أتم ما أرضاه مثنياً عليكم داعياً لكم‏.‏وإن فسح الله في الأمد وقضى الحاجة فأملي العودة إلى ولدي وتربتي وإن قطع الأجل فأرجو أن أكون ممن وقع أجره على فإن كان تصرفي صواباً وجارياً على السداد فلا يلام من أصاب وإن كان عن حمق وفساد عقل فلا يلام من اختل عقله وفسد مزاجه بل يعذر ويشفق عليه ويرحم وإن لم يعط مولاي أمري حقه من العدل وجلبت الذنوب وحشرت بعدي العيوب فحياؤه وتناصفه ينكر ذلك ويستحضر الحسنات من التربية والتعليم وخدمة السلف وتخليد الآثار وتسمية الولد وتلقيب السلطان والإرشاد للأعمال الصالحة والمداخلة والملابسة لم يتخلل ذلك قط خيانة في مال ولا سر ولا غش في تدبير‏.‏ولا تعلق به عار ولا كدره نقص ولا حمل عليه خوف منكم ولا طمع فيما بيدكم فإن لم تكن هذه دواعي الرعي والوصلة والإبقاء ففيم تكون بين بني آدم وأنا قد رحلت‏.‏فلا أوصيكم بمال فهو عندي أهون متروك ولا بولد فهم رجالكم وخدامكم وممن يحرص مثلكم على الاستكثار منهم ولا بعيال فهي من مربيات بيتكم وخواص داركم إنما أوصيكم بحظي العزيز كان علي بوطنكم وهو أنتم فأنا أوصيكم بكم فارعوني فيكم خاصة‏.‏أوصيكم بتقوى الله والعمل لغد وقبض عنان اللهو في موطن الجد والحياء من الله الذي محص وأقال وأعاد النعمة بعد زوالها ‏"‏ لينظر كيف تعملون ‏"‏‏.‏وأطلب منكم عوض ما وفرته عليكم من زاد طريق ومكافأة وإعانة زاداً سهلاً عليكم وهو أن تقولوا لي‏:‏ غفر الله لك ما ضيعت من حقي خطأ أو عمداً وإذا فعلتم ذلك فقد رضيت‏.‏واعلموا أيضاً على جهة النصيحة أن ابن الخطيب مشهور في كل قطر وعند كل ملك واعتقاده وبره والسؤال عنه وذكره بالجميل والإذن في زيارته نجابة منكم وسعة ذرع ودهاء فإنما كان ابن الخطيب بوطنكم سحابة رحمة نزلت ثم أقشعت وتركت الأزاهر تفوح والمحاسن تلوح ومثاله معكم مثال المرضعة أرضعت السياسة والتدبير الميمون ثم رقدتكم في مهد الصلح والأمان وغطتكم بقناع العافية وانصرفت إلى الحمام تغسل اللبن والوضر وتعود فإن وجدت الرضيع نائماً فحسن أو قد انتب فلم تتركه إلا في حد الفطام‏.‏وتختم لكم هذه الغزارة بالحلف الأكيد‏:‏ إني ما تركت لكم وجه نصيحة في دين ولا في دنيا إلا وقد وفيتها لكم ولا فارقتكم إلا عن عجز ومن ظن خلاف هذا فقد ظلمني وظلمكم والله يرشدكم ويتولى أمركم‏.‏ونقول‏:‏ خاطركم في ركوب البحر‏.‏انتهت نسخة الكتاب وفي طيها هذه الأبيات‏:‏ صاب مزن الدموع من جفن صبك عندما استروح الصبا من مهبك كيف يسلو يا جنتي عنك قلب كان قبل الوجود جن بحبك ثم قل كيف كان بعد انتشاء ال روح من أنسك الشهي وقربك لم يدع بيتك المنيع حماه لسواه إلا إلى بيت ربك وإذا ما ادعيت كرباً لفقدي أين كربي ووحشتي من كربك ولدي في ذراك وكري في دو حك لحدي وتربتي في تربك يا زماناً أغرى الفراق بشملي ليتني أهبتي أخذت لحربك أركبتني صروفك الصعب حتى جئت بالبين وهو أصعب صعبك وكتب آخر النسخة يخاطبني‏:‏ هذا ما تيسر والله ولي الخيرة لي ولكم من هذا الخباط الذي لا نسبة بينه وبين أولي الكمال‏.‏ردنا الله إليه وأخلص توكلنا عليه وصرف الرغبة إلى ما لديه‏.‏وفي طي النسخة مدرجة نصها‏:‏ رضي الله عن سيادتكم‏.‏أونسكم بما صدر مني أثناء هذا الواقع مما استحضره الولد في الوقت وهو يسلم عليكم بما يجب لكم وقد حصل من حظوة هذا المقام الكريم على حظ وافر وأجزل إحسانه ونوه بجرايته وأثبت الفرسان خلفه‏.‏والحمد لله انتهى‏.‏ثم اتصل مقامي ببسكرة والمغرب الأوسط مضطرب بالفتنة المانعة من الأتصال بالسلطان عبد العزيز وحمزة بن علي بن راشد ببلاد مغراوة والوزير عمر بن مسعود في العساكر يحاصره بحصن تاجحمومت وأبو زيان العبد الوادي ببلاد حصين وهم مشتملون عليه وقائمون بدعوته‏.‏ثم سخط السلطان وزيره عمر بن مسعود ونكر منه تقصيره في أمر حمزة وأصحابه فاستدعاه إلى تلمسان وقبض عليه وبعث به إلى فاس معتقلاً فحبس هناك وجهز العساكر مع الوزير أبي بكر بن غازي فنهض إليه وحاصره ة ففر من الحصن ولحق بمليانة مجتازاً عليها فأنذر به عاملها فتقبض عليه وسيق إلى الوزير في جماعة من أصحابه فضرب أعناقهم وصلبهم عظة ومزدجراً لأهل الفتنة‏.‏ثم أوعز السلطان إلى الوزير بالمسير إلى حصين وأبي زيان فسار في العسكر واستنفر أحياء العرب من زغبة فأوعبهم ونهض إلى حصين فامتنعوا بجبل تطري ونزل الوزير بعساكره ومن معه من أحياء زغبة على الجبل تيطري من جهة التل فأخذ بمخنقهم وكاتب السلطان أشياخ الدواودة من رياح بالمسير إلى حصار تيطري من جهة القبلة‏.‏وكاتب أحمد بن مزنى صاحب بسكرة بإمدادهم بأعطياتهم وكتب إلي يأمرني بالمسير بهم لذلك فاجتمعوا علي وسرت بهم أول سنة أربع وسبعين حتى نزلنا بالقطفة ووفدت في جماعة منهم على الوزير بمكانه من حصار تيطري فحد لهم حدود الخدمة وشارطهم على الجزاء‏.‏ورجعنا إلى أحيائهم بالقطفة فاشتدوا في حصار الجبل وألجأوهم بسوامهم وظهرهم إلى قنته فهلك لهم الخف والحافر وضاق ذرعهم بالحصار من كل جانب وراسل بعضهم في الطاعة خفية فارتاب بعضهم من بعض فانفضوا ليلاً من الجبل وأبو زيان معهم ذاهبين إلى الصحراء واستولى الوزير على الجبل بما فيه من مخلفهم‏.‏ولما بلغوا مأمنهم من القفر نبذوا إلى أبي زيان عهده‏.‏فلحق بجبال غمرة ووفد أعيانهم على السلطان عبد العزيز بتلمسان وفاءوا إلى طاعته فتقبل فيئتهم وأعادهم إلى أوطانهم‏.‏وتقدم إلي الوزير - عن أمر السلطان - بالمسير مع أولاد يحيى بن علي بن سباع للقبض على أبي زيان في جبل غمرة وفاء بحق الطاعة لأن غمرة من رعاياهم فمضينا لذلك نجده عندهم‏.‏وأخبرونا أنه ارتحل عنهم إلى بلد وأن كلا من مدن الصحراء فنزل على صاحبها أبي بكر بن سليمان فانصرفنا من هنالك‏.‏ومضى أولاد يحيى بن علي إلى أحيائهم ورجعت أنا إلى أهلي ببسكرة وخاطبت السلطان بما وقع في ذلك وأقمت منتظراً أوامره حتى جاءني استدعاؤه إلى حضرته فارتحلت إليه‏.‏